الإزلام | دين السندباد

يقف المطلع على أمر العرب عقائداً وتاريخاً، وقفة الحائر وهو يفسر كيف لدينهم هذا الذي نراه يعج بالفتاوى المتخلفة، والأوهام المستشرية أن ينتشر، بل وأن يسود مدّة من الزمان، ويبلغ أقاصي الأرض، ويؤسس لمنهج علمي في عدة علوم، ولفلسفات مركبة خليقة بالمدنية والحضارة، ومن السهل عليه أن يجزم أن ما ندعوه اليوم إسلاماً، أي المسمى وليس المعنى، ليس هو ذاته الإسلام الذي ساد وباد، ولأن المسمى غير مطابق للاسم، مما يسبب اختلاطاً والتباساً في المعنى، فوجب علينا البحث عن اسم آخر له، وأنا أسميه الإزلام.

الإزلام عربياً

الجذر العربي (زلم) يشتق منه كل ما هو جامد وصلب، ومن هنا جاءت اللفظة المتداولة (زلمة) بمعنى رجل، ومنه أيضاً اللفظة القرآنية (الأزلام) بمعنى الأصنام، فهي رموز جامدة، جعل منها التعصب واتخاذها أعلاماً للقبائل المتناحرة آلهة، ويمكن تفسيرها كطور متأخر من أطوار الطوطمية القديمة، والمصطلح الذي نحن بصدد اجتراحه على صيغة إفعال من الجذر زلم، وهنا الإزلام هو التجميد، والتجسيد، تجميد الأفهام، وتجسيد الإله، ولا يخفى على عاقل أنها مطابقة للاسم من جهة تجميد الأفهام، أما التجسيد فهو ما حملته الوثنية إلى اليهودية فحلت فيها حلول الروح في الجسد، فرأينا اليهودية تتحول إلى قومية جهة النسب فيها الأم، وهذا يعود إلى العصور القديمة بمركزية الأم في الأسرة، وبالنسب المبني على الطوطم، وبالوثنية التي تريد إلهاً جسداً يشبه البشر، يصارعه بشر فيغلبه فيسمى إسرائيل (إسرائيل: إسرا أي صرع و إيل هو الإله). ولن نأخذ وقت القارئ في تبيين ما حُمل من اليهودية في الإسلام (ما يوصف بالإسرائيليات) من عدة طرق، ولكن تكفي بعض الإشارات التي سترد في سياقات مختلفة، فقد سبقنا من كتب في ذلك فأكثر.

ولا يفوتنا التأكيد على أن التحالف السياسي الوهابي الصهيوني، الذي نراه اليوم، له جذوره العقدية، فكلاهما يشترك بمنظومة عقدية واحدة، وبفعل تخلقه هذه المنظومة فيهما، فهما يعتقدان بوثن يسكن السماء، يشبه البشر يجلس على عرش ويضع رجليه في الماء مرتديا نعلا شراكه من ذهب، وإننا لنسمع اليوم الفتاوى الوهابية التي تسوّق لكون اليهود “مؤمنين” بعكس آهل المذاهب الإسلامية المختلفة، التي تسارع الوهابية لتكفيرها طرّا، فنحن أمام خيارين تفرضهما علينا آلية الاصطلاح، أولهما أن نعيد تسمية كل المذاهب المتناحرة التي يكفر بعضها بعضا، أو أن نعيد تسمية الجانحين للتكفير، وهكذا اخترنا الثاني لنبرر خلق مصطلح جديد وهو الإزلام.

كان من المقبول عربيا أن أشتق المصطلح من جهة الجذر (صلم) ففيه ذات الخصائص، لكنما رجحت مفردة الإزلام لالتقائها باللفظة الإنجليزية المعولمة (Islam) وهي تُلفَظ بالزاي لا بالسين، وقد نرى أن الإزلاميين يتسابقون لمحاكاة الصورة الموجودة في أذهان الغرب عنهم، والتي بنتها عهود طويلة من الاستشراق والاستبداد والغزو المادي والمعرفي، وسنمر معا على هذا في غير موضع من هذا المقال، لكننا هكذا نكون قد شخصنا المصطلح وعرفناه وبررنا سبب إيجاده، ووضحنا أننا وإن كنا قد نناقش الإسلام في مقالات أخرى، إلا أن هذا المقال مخصص لمناقشة الإزلام والإزلاميين.

الشعوبية

ظهرت الشعوبية إبان توسع رقعة الملك العربي، المتخذ من الإسلام حاملا له، لتشمل قوميات أخرى غير العرب، من الذين كانوا يحتلون بقاعا عربية، وامتد ذلك إلى داخل بلادهم وأراضيهم، والشعوبية تعرّف بكونها النزعة المعادية للعرب، والتي لم تجرؤ على الهجوم على الإسلام، فقامت باستغلال خصائص اكتسبها الإسلام من أجل تسهيل انتشاره، لتصبح هذه الخصائص التي اعتمد عليها العرب في توسيع رقعة ملكهم، سلاحا في يد الشعوبيين للهجوم على العرب، وهي كانت في أول ظهورها مجرد انتقاص من العرب وتقليل من شأنهم، ثم مقارعة لهم بالحجة دفاعا عن فلسفاتهم القديمة، ثم اختطافا للملك من يد العرب، لا سيما أداته الأولى وهي الإسلام ذاته.

ربما كان مبتدأ هذا الخلل هو الفتنة واقتتال العرب فيما بينهم على الملك في الصراع الذي انتهى ببسط بني أمية نفوذَهم، وجنحوا لتمكين ملكهم من خلال العقائد الجَبْرية، التي تلغي الفاعليّة الإنسانية، فاتكأوا على اعتقاد الناس بفهم مختل للقدر كان الإسلام يحاربه في بدايته، ثم شرعوا يرسخون حكمهم بترسيخ هذا المفهوم، وقيل: إن الأمويين شكلوا جهازا سريّا كان أباه الروحي القديس الفيلسوف يوحنا الدمشقي، الذي كان وزيرا للمالية في الدولة الأموية خلفا لأبيه، وكانت مهمة هذا الجهاز اختلاق المرويات الحديثية التي ترسخ حكم بني أمية وتقمع أي ثورة تقوم عليهم، وهكذا كان هذا السلاح هو ذاته الذي استخدمه الشعوبيون في هجومهم المضاد، إذ كان لهذه المرويات انتشار أوسع من القرآن، فهي تتمتع بالمرونة وإمكانية تحويرها لأنها مبنيّة على جمل محكيّة، يمكن حرفها عن سياقها التي قيلت فيه، وإنتاج دلالة مختلفة منها، وتنتقل بوساطة الرواية اللفظية، ويمكن اختلاقها حسب الحادثة، ويضاف إلى ذلك كونها تشكل بديلا أو لنقل نظيرا للقص القديم الذي كان يتناول سِيَر الملوك أو آلهة الأساطير، لكن بشخوص مختلفة هي في هذه الحال الرسول والصحابة، وما يزال الإزلام يُبنى على هذه القصص حتى إنك لتعجز أن ترى أي انتشار لشيء من مركبات الوعي الإسلامي بين الإزلاميين غيرَها، وإن وجد فهو متعلق بها مشتق منها تابع لها، وهكذا ترى كهنة الإزلام لا يعدُون أن يكونوا حكّائين أو قصّاصا أو “حليقاتية” وكلها من أسماء الراوي.

قديما تصدى للدعاوي الشعوبية شعراء العرب، ونشأ تيار العدليين المعتزلة فجادلهم فلسفيا وعقليا، ولم يقف الأمر عند هذا النوع من التفنيد والجدل، بل انتقل للدفاع الصريح عن العرب في كتابات الجاحظ، وابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب “فضل العرب والتنبيه على علومها” الذي تناول حتى ما عابه الشعوبيون على العرب من تناولهم الطعام على الأرض وأكلهم بالأيدي، لكنْ وبعد استقواء الحكام الظلمة على العرب الثائرين على الظلم بالشعوبيين، وتمكيينهم من مفاصل الدولة، تمّ لهم شرط الحكم وكانت لهم السلطة على دين الناس (نظامهم) حتى كان ما كان، وبطش أحمد بن إسحق الملقب بالقادر بالله بأهل العقل واللسان العربي، وأقام لهم محاكم تفتيش، وصفاهم جسديا، وأجبر الناس على العقيدة الواردة في الوثيقة القادرية، والتي من بعدها ابتدأت دولة العرب بالانحسار والتفكك، وتحول الإسلام الذي كان حامل قوة إلى الإزلام الذي هو سبب ضعف وتخلّف.

ما دخل السندباد؟

السندباد في ألف ليلة وليلة هو بطل لمجموعة قصص فُصِلت عن ألف ليلة وليلة وضمّنت في كتاب وحدها، ويقال إنها في الأصل لم تكن في كتاب ألف ليلة وليلة، بل زيدت عليه، وإن واضعها ومؤلفها لقبه السندباد، وبطل الرحلة هو رحالة بحري لا يسمى السندباد، وضعها أحد حكماء الهند في عهد الملك كوش كما أورد النويري، فصار اسمها كتاب السندباد، أي الكتاب الذي ألفه السندباد، وهو وضعه حسب النويري بغاية تعديل المعتقدات الدينية من خلال الرموز السردية المضمنة فيه، ثم لما ضمّنت في حكايات ألف ليلة وليلة، تحولت إضافة النسبة للكاتب إلى معنى النسبة للبطل، وكتاب ألف ليلة وليلة، هو في الأصل حيلة بارعة لضمّ القصص الشعبية في قصة واحدة، على لسان شهرزاد التي تروي لتعيش، في رمزية لمركزية الحكاية في التعلم والحياة، حتى إن الشيخ الشيرواني خلص لكون واضعه قصد تعليم اللغة العربية للمسلمين من غير العرب من خلاله.

والعقائد التي تثبط همم الناس، وتجعلهم يتقبلون كل أفعال حكامهم لا يمكن فصلها عن الموروث القصصي، الذي يكون الأبطال فيه دوما ملوكا في مبتداهم أو منتهاهم، وهذا لم يكن عند العرب، بل إن النضر بن الحارث كان من أوائل من تعلم قصص ملوك الفرس والهند ليبزّ القرآن، لأن قصص العرب كانت عن المحاربين والصعاليك وطرائف المروءة والكرم، وقد أخذ كتاب (ألف ليلة وليلة) شكل القص القرآني، الذي تتداخل فيه القصص، ويجرد فيه الزمان والمكان والحدث توصّلا إلى المعنى الخالص، ويذكَر أن البعض يرى فيه كما يرون في (كليلة ودمنة) لابن المقفع و (الفصول والغايات) للمعري، استجابة للطلب القرآن بالإتيان بكتاب يباريه في البلاغة والأثر، وإن كان ابن المقفع كما يقال اخفى مقصده من خلال اختلاق قصة دبشليم وبيدبا، فكتاب ألف ليلة وليلة أخفى حتى مؤلفه أو لنقل مؤلفيه أفرادا وشعوبا.

وأثر هذه الروايات على العرب اليوم واضح، فإنك لتجدهم يظنون أن الخلود في الفردوس يتحقق لهم من خلال ترديد بعض الجمل فقط، وكأنهم يلقون بسحر كما في قصص السندباد، فهل هناك فرق حقيقي بين القول بـ(من قال كذا بُني له بيت في الجنة) وبين فرك المصباح وخروج جني الأماني منه! ناهيك عن مركزية الجنس والجواري وعدد الحوريات في الجنة والوصف الذي يبلغ حد الإسفاف والبذاءة والامتهان للجماع المنتظر، وقد وقعتُ على بعض المرويات الحديثية التي تتبجح بطول فترة القذف مع الحوريات التي تمتدّ لسبعين سنة! وكل ما هو ذو صبغة سندبادية في دين الناس اليوم يشترك في حشد الخرافات لتعضد بعضها، وبالتدليل على قصة بقصة أخرى، وبترك الإنسان فريسة لأحلام اليقظة، وتثبيط همته عن الفعل الحقيقي في التاريخ. ولنا أن ننبه إلى أمر خطير وهو العلاقة التي ترمز لها القصة بين الشيخ والتاجر واللص والملك، والتي نراها اليوم ماثلةً في حياتنا، ولذلك أقول: “المسلمون اليوم على دين السندباد أكثر من كونهم على دين محمد”.

القصص السندباد

كما أن البشر يرتحلون في البلاد فالقصص ترتحل أيضا، بل إن ارتحالها أسرع وهي بعكس البشر قد توجد في مكانين في آن معا، وإذا كان الرحالة يعود بلاده وقد غيرته السنون والخبرات، فالقصة تعود وقد تغيرت وتطورت واكتسبت خصائص جديدة. الأسلوب العربي واضح في سردية ألف ليلة وليلة، من باب تداخل القصص وأنها تسكن بعضها بعضا، وهو أسلوب قرآني ابتداءً كما أسلفنا، لكن هذا لا يعني أن القصة عربيةٌ خالصة، وعلى كثرة الشعر العربي السبكِ الموجود فيها، إلا أنها تحتوي على الكثير من أساطير الشعوب الشرقية التي دخلت الإسلام، وتحتوي على تصور شعوبي للعرب، وقد أدى هذا على مر الزمن لتبني العرب نظرةً شعوبية لأنفسهم، وهذا يشبه ما حدث مع المواد الخام في الوطن العربي التي عاشت دورة مشابهة، تخرج من هنا لتذهب لمكان آخر، تسمح فيه البنية الإنتاجية بإعادة التصنيع، ثم ترجع لنا كمواد أساسية نحتاجها، وتبدأ هي بتشكيلنا.

ومن التساؤلات المشروعة أيضا للواقف على أمر العرب، أين كانت كل هذه الطائفية قبل الغزو؟ ولنعد هنا للاستشراق، فالمستشرقون على حد تعبير الكتب المدرسية في بعض الدول العربية الوظيفية “اكتشفوا” الأثر الفلاني، البتراء مثلاً، وكأن المنطقة لم تكن مأهولة من قبل، وبقي أن يقولوا أنه اكتشف البدو الذين كانوا حولها أيضا! أو اكتشف العرب! في الحقيقة الدور الذي لعبه المستشرقون لم يعد سرا، فهم كانوا مقدمة للغزو، ويكفينا قصة (صندوق استكشاف فلسطين) الذي تأسس بعد قرار اللورد فيسكاونت بالمرستون بخلق حاجز ديموغرافي/سياسي يفصل بين شطري الأمة العربية ليمنع أي تجربة للوحدة، بعد صافرة الإنذار التي أطلقها مشروع محمد علي باشا القومي، الذي هدد طرق التجارة لأوروبا وهدد من ثَمّ الطبقة الرأسمالية التي تحكم أوروبا، فكانت المعلومات التي أتى بها المستشرقون سببا لتيسير مهمة الغزو، وابتدأ المشروع الصهيوني أيام الاحتلال التركي الشعوبي قبل ما يسمّى “الهولوكوست”.

بيد إن أخطر ناتج للاستشراق برأيي لم يكن المشروع الصهيوني فهو زائل، ولم يكن محاولة محاكاة الغرب فالحكمة ضالة المؤمن، بل كان إعادة قراءة العرب لذواتهم من منظور غربي، من ثم إعادة إنتاج ذواتهم وفق تلك النظرة، ومن هنا ورث “الإيمان” العربي العداوة مع الشيوعية عن “الإيمان” الأوروبي، وورثوا حتى نمط الحركات الدينية “الإصلاحية”، وبات الدين الذي كان حاملا للنهضة العربية، سلاحا مسلطا على رقاب العرب، تماما كما حدث في أيام الشعوبية، ولهذا ربما لا يخلو إزلاميّ من احتقارٍ للذات (احتقار للعرب) مغلف بطبقة رقيقة من المفاخر الكاذبة، بنهضة علمية عربية قديمة، سرعان ما يتنكر لها عندما يعلم أن كهنة دين السندباد في ذلك الزمن كفروا أصحابها، ويوافق هواه في التنكر لهم ادعاءاتٌ شعوبية بأن الرازي وابن سينا وغيرهم ليسوا عربا، وكأن العروبة عرق!

الصهيونية لا دين لها

هذه الجملة أظنها قيلت لتفصل بين اليهودية والصهيونية، فما زال من اليهود العرب أقوام قابضة على جمر الحياة في أوطانهم التي باتت جحيما بسبب الإزلاميين، الذين نسوا أنهم ينسبون أنفسهم لدين الإسلام وبدأوا يتعاملون معه كعرق متفوق يتعنصرون له عنصرية، لا نظاما اجتماعيا ينتمون له، ولكن هذه الجملة (الصهيونية لا دين لها) تعني شيئا آخر لي، وهو أن الصهيونية عابرة للأديان، فبعد كل شيء الصهيونية هي المساعدة _أيا كانت_ على إقامة “مملكة صهيون”، والتي يؤمن الصهاينة أن الملك الرسول سيبعث ليقودها، وهذا المخلّص هو الذي سيمسحونه بالزيت ليغدو مسيحا، بعد أن أنكروا رسالة المسيح لأنه لم يكن ملكا، فلما كان انتظارهم هذا مُعديا، أخذ بعض المسيحين ينتظرون عودة المسيح، وكذلك الإزلاميون أخذوا ينتظرون نزول “المهدي” والمسيح والدجال، والإيمان بوجودهم ليس هو العيار في وسم الإيمان بكونه صهيونيا، بل العيار هو أن نؤمن بحتمية قيام الدولة الصهيونية على الأرض العربية، وهذه العقائد مبنية على المرويات (الحكايات) والمرويات فقط، وهي قديمة كان العرب الأوائل فسروها على أنها بشارات بعثة محمد بن عبد الله (الرسول الذي مُكن له وأسس ملكا).

وبعد، فإن هذه النسخة من الاعتقاد المنسوبة للإسلام تحمل أفكارا صهيونية عميقا في بنيتها الأساسية، وهكذا وجدتْ مصطلحات من مثل (الصهيو-وهابية) طريقها للوجود، ونلاحظ الشراكة العميقة التي تتجاوز التحالف السياسي على أهميته، ومنها احتقار المرأة، واحتقار العرب، والنظر للإيمان على أنه عرق وعنصر، وبناء الفلسفة العامة للدين على مرويات قصصية، والإيمان بأقدار حتمية تسلب الإنسان قدرته على الفعل وتحريك التاريخ، وكذلك فإنه كما كانت العنصرية المسيحية الصهيونية عاملا طاردا لليهود من أوطانهم، لتستقبلهم الوكالة الصهيونية وترسلهم إلى فلسطين، فإن الإزلام لعب دورا مهما في تهجير اليهود العرب من ديارهم إلى الكيان الصهيوني، وكلا الفعلين خيانة سواءً الهجرةُ أو التهجير، ولعب الاستشراق دوراً في قراءة نقاط ضعف الأمة والتركيز عليها، واختطاف الإسلام من خلالها، لإعادة إحياء الإزلام.

رقعة الشطرنج

بعيدا عن إصدارات “دار النفائس” غير النفيسة على الإطلاق، وأعني هنا كتبا من مثل “أحجار على رقعة الشطرنج”، التي تسوق لقبول العرب بالمخططات الغربية بحجة أن “الماسونية تحكم العالم” وغيرها من الأساليب السندبادية في السيطرة على العقول، استحضر فكرة رقعة الشطرنج، لأقول إن الخانة التي تمتنع عن استغلالها على رقعة الشطرنج يستغلها خصمك ضدك، وعليه فإنه من غير المبرر إحجام القوميين العرب عن استعادة الدين العربي من يد مختطفيه الإزلاميين، فهو اليوم بصورته السندبادية يدخل في معركة كسر عظم مع أي مشروع تحرري عربي، بوصفه أداة للإمبريالية وخنجرا في خاصرة الأمة يمنعها من الحركة للأمام.

وفي تعاضد الأزهر مع محمد علي باشا في مشروعه القومي العربي، وفي نشر مصر الناصرية لكتب المعتزلة التي أرسلت لها بعثة لليمن، وفي ازدهار الأزهر في عهد ناصر، في ذلك كله وفي غيره أمثلةٌ على أن المشروع التحرري العربي يجب ألا يتصادم مع الإسلام، وهذا لتأمين الحاضن الشعبي للمشروع التحرري العربي، فهو في النهاية لخدمة العرب ولتحريرهم، وإذا كان تحرير العرب من التبعية السياسية والاقتصادية للغرب لا يتم إلا بتحرير الإنسان العربي معرفيا، إن كان تحريره من السندبادية أو من الاستلاب المعرفي للغرب، فليكن الهجوم محددا ولتكن الطعنة موجهة للسندباد، لا للإيمان كله، وقد يقول قائل وهو محق: إن القوميين واليساريين تحفظوا على مهاجمة الأديان. فإني أقول: نعم، ولكن المهم ألا يبرروا عدم تصادمهم مع الدين بمنظومة الحريات وحقوق الإنسان، فهذا كالذي يهرب من الدلف إلى تحت المزراب، الأصل أن يتصدوا للخرافات وأن يبحثوا داخل المنظومة العقدية الإسلامية عما يساعدهم على ذلك وهو موجود، فقد بلغ العرب المسلمون غاية التحرر من الخرافات وفسروا العالم على أساس مادي، منذ المعتزلة الأوائل، فجندي داخل أسوار العدو قد ينجز ما لا ينجزه جيش خارجها، وبهذا فلنشنّ حربا ضروسا على دين السندباد حتى نقتلعه من الأذهان والقلوب لصالح نسخة نهضوية من الإسلام.

تلك الخانة الفارغة على رقعة الشطرنج، وهي “الإسلام المتنوّر”، يسعى الغرب سعيا حثيثا لاحتلالها، وهناك خوف عظيم عليها بسبب البعثات الاستشراقية التي توظف لإعادة قراءة التراث العدليّ عموما والمعتزليّ منه خصوصا، وعلى رقة حال الساعين لنهضة هذه الأمة وقلة مواردهم، ووجود تلال المخطوطات العربية القديمة في المتاحف الغربية، فقد يكون المعتزلة الجدد فريسة لحيلة سندبادية استشراقية جديدة، ولعل المدخل سيكون هذه المرة تقبل الآخر والعقلانية وحقوق الإنسان، لجعلهم يتقبلون الوجود الصهيوني في فلسطين، أو الاستفادة منهم فقط لقتل وحش فرانكشتاين الإزلامي الذي صنعه الغرب، وبات يخاف أن يفقد السيطرة عليه، ثم وبعد قتله لصالح الغرب، استغلالهم لتكريس التبعية المعرفية للغرب، لذلك فإن الفكر القومي ضروري للإسلام المتنور حتى لا يكون أداة غربية أخرى، كضرورة الإسلام للفكر القومي، ورقّة الحال في هذه الحرب المعرفية يمكن تجاوزها من خلال فهم المتناقضات فيما يرشح عن الدراسات الغربية، وعدم التسليم بنتائجها، من ثم الخلوص بنتائج خاصة بنا تكون بوصلتها مصلحة الأمة العربية في رواية التاريخ الاعتزالي وإعادة بناء نظير معاصر له، فكما قيل: “التناقضات هي حقائق تقف على رأسها لتسترعي الانتباه”.