إزدواجيةُ المعايير والموازين..في ذكرى ولادةِ شاعرِ القرنِ العشرين

اراء
27 يوليو 2020wait... مشاهدة
إزدواجيةُ المعايير والموازين..في ذكرى ولادةِ شاعرِ القرنِ العشرين
محمد الجاسم

كتب :محمد الجاسم

تمر اليوم الذكرى العشرون بعد المائة لولادة الشاعر (الكبير) محمد مهدي الجواهري،نعم،لقد كان كبيراً في عطائه الشعري وفي لغته العربية الثرّة وفصاحة لسانه وفيوضات نتاجه الوجداني والسياسي،وفي تناولاته الجريئة للتعاطي مع تفاصيل الحياة المحيطة به وبوطنه وبغربته، وكذلك في مشاكساته ومهاجماته الشعرية للشعراء الذين نالوا منه بسبب مواقفه غير المشرِّفة للوسط الشعري في وقته..حتى قال فيه آخرهم، وهو الشاعر (إبراهيم الخال) ،هاجياً ومتهماً الجواهري، بأن في جلسة خمر ممكن أن يشتروا بها لسانه :

” أغراك بالكأس قولٌ فيك مكذوبُ
فاشرب وحقك إن الحُرَّ مرهوبُ “

يبدو ان الوقت قد حان لإستذكار ذكرى ولادة النفاق والتزلّف الى الحكام الظالمين..ولادة توظيف الشعر العربي الراقي للتملّق والإرتزاق..لقد كان الجواهري شاعراً فحلاً..ولكنه مواطنٌ منزوع الوطنية..وحبيس الإزدواجية..فقد بدأ ذلك السلوك الغريب مبكراً في سيرته الذاتية، ففي الوقت عينه الذي يرثي فيه أخاه جعفر الجواهري، الذي قتلته شرطة نوري السعيد وعبد الإله ،في وثبة كانون الثاني 1948على جسر الشهداء ،نراه يمدح عبد الإله الأمير الحجازي المفروض على العراق من قبل بريطانيا، ويصفه ب(حفيظ عهد) الأمة و(منقذ الشعب) ،ويمدح الوصي السكّير بقصيدة ،قال فيها :

” حَضَن التاجُ بنيهِ فتعالى
وتعالى حارسُ التاج جلالا

وتعالت أمةٌ لم تنحرفْ
عن مدى الحقِّ ولا زاغتْ ضلالا

يا (حفيظَ العهدِ) للوادي ويا
أملَ الوادي فتوّاً واقتبالا

وصليبُ العود يأبى غمزةً
ورفيعُ الرأس يأبى أن يطالا

هرع الشعب إلى (منقذهِ)
مُلقياً في الساحة الكبرى الرحالا “

للتأكيد..وعدم الفهم الخاطئ..( كان الجواهري شاعراً فحلاً) هذا تقويم شعري..و( ولكنه منزوع الوطنية)..هذا تقويم سياسي..لقد فصلت بينهما فصلاً موضوعياً..أنا أستشهد أحياناً ببعض أبياته كشواهد شعرية..وأيضاً استشهد بمواقفه السياسية التملّقية كشواهد عديمة الطعم واللون الوطنيَّيْن ،كما جاء على لسانه في قصيدة سميت في وقتها (قصيدة التتويج) ، وهي القصيدة التي ألقاها الشاعر محمد مهدي الجواهري في حفل ماجن أقيم في ” قصر الرحاب ” غربي بغداد بمناسبة تتويج فيصل الثاني رسمياً ملكاً على العراق بعد بلوغه سن الثامنة عشرة من العمر، في يوم الجمعة الأول من مايس العام 1953 ،ونشرها الصحافي الراحل القدير فالح العماري في اليوم التالي في جريدة ” لواء الجهاد ” ، التي كان سكرتير تحريرها ، و صاحبها المحامي فائق توفيق .

” يا أيها الملكُ الأغرُّ تحيةَ
من شاعرٍ باللطفِ منك مُؤَيّدِ

أنا غرسُكُم أعلى أبوك محلّتي
نبلاً وشرّفَ فضلُ جدّك مقعدي “

ولا أظنه بعيداً عن مراد القارئ اللبيب أن يجد في بحث بسيط قصائد الجواهري في مدح الملك حسين بن طلال مجرم أيلول الأسود ضد الفلسطينيين في الأردن..وصاحب المواقف القبيحة لنصرة صدام في الحرب ضد الجارة المسلمة إيران،بداية الثمانينات من القرن الماضي،وكذلك مدحه لنجل أحمد حسن البكر في مناسبة ذكرت تفاصيلها في موقعها.
ولم يكن غريباً على محمد مهدي الجواهري أن يمدح الديكتاتور البعثي حافظ الأسد:

” سلاما أيها الأسدُ…. سلمتَ وتسلمُ البلدُ
وتسلم أمةّ فخرتْ… بأنكَ فخرُ مَنْ تَلِدُ “
ولاأدري كيف استخدم الفعل المضارع (تسلمُ)مبدوءاً بالتاء..بدل الياء..(يسلمُ) لكلمة فاعلها مذكر(البلد).. ؟
ومن نافلة القول في ذكرى إزدواجية المعايير والموازين.. ذكرى ولادة شاعر القرن العشرين ، ذكر أكذوبة سحب الجنسية منه من قبل الطاغية صدام،التي لم تنطلِ على النخب والمثقفين الذين عايشوه في الخارج،وخصوصاً اصدقاؤه في براغ العاصمة الجيكية التي عاش فيها ردحاً طويلاً من غربة الكؤوس والندامى بعيداً عن هموم المواطنين في الداخل وهموم المعارضين في الخارج..كما لم تنطلِ، أكذوبة قصيدته التي نسبت إليه يهجو فيها صدام،علينا جميعاً، نخباً وأفراداً،متذوقين وشعراءَ ومتخصصين،نظراً الى الكم الهائل فيها من الركاكة البلاغية والأغلاط اللغوية والإملائية والعروضية، التي تعرض لها غيري في الشرح والتفصيل.
رحم الله الجواهري..وغفر له تأريخه من الذنوب..وإنَّ أكثرَنا لمن المذنبين..

وَرُبَّ قَوْل..أنْفَذُ مِنْ صَوْل..!

ناصرية ـ دورتموند / ألمانيا
26تموز2020

error: Content is protected !!