من إيحاءات بلدربيرغ

تكبير الخط تصغير الخط

في مقالي الأسبوع الماضي كتبت عن الغرب وماذا يريد من الشرق وانتهيتُ إلى أن ما يجري في الشرق اليوم من سعي دول الغرب ولاسيما الدولة الأعظم في العالم الولايات المتحدة الأمريكية إلى تدمير الشرق الأوسط اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وإثارة. الفوضى التي يسمونها خلاقة في أنحائه ومشروعها الجديد في أيرنة المنطقة ، وحربها الفكريةالتي تخوضها ضد قِيَم المنطقة ومبادئها ، كل ذلك ليس من صالح هذه الدول ولن تُحقق منه أدنى منفعة تخدم سيادتها أو تخدم استقرار ورفاه شعوبها، وإن زعمتْ ذلك ، وأن المستفيد الوحيد هو الكيان الصهيوني ، وهذه الدول العظمى بعظيم مُقَدَّرَاتِها إنما هي خَدَم للصهيونية العالمية وحُلُمِها الخطير الذي لم تستطع الوصول إليه حتى اليوم وهو تكوين إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل .
هذا ما أشرت إليه في ذلك المقال ، وقد حدث بعد نشره أن عُقِد في ألمانيا مؤتمر نادي بيلدربيرغ وهو المؤتمر السنوي الرابع والستون لمجموعة كبرى من كبار المؤثرين في مجريات أحداث العالم من مُلَّاك الإعلام العالمي والسياسيين والمصرفيين وبعض قادة الدول الحاليين والسابقين من أوروبا والأمريكتين ، والجميع يحضرون بصفتهم الشخصية وليس الاعتبارية الرسمية .
وهو مؤتمر سري بمعنى أن الصحافة لا تدخل إليه ولا يمكنها أن تعرف ما يدور فيه،كما أنه لا يصدر عنه أي بيان ختامي من أي نوع وليست له دعاية .
قرأت كثيراً عن هذا المؤتمر قبل أن أكتب هذا المقال ، ولفت نظري أن كل الكتابات عنه يغلب عليها كونها إعادة تدوير لمعلومات واحدة وليس فيها أي إبداع أو تجديد ، وربما أصل كثير منها مقالة الصحفي الفرنسي تييري ميسان والتي ذكر أنه استقى معلوماته فيها عن أحد الضيوف السابقين للمؤتمر ، ومن سجلات المؤتمر بين عامي ١٩٥٤ـ١٩٦٦التي حصل عليها حصريا كما يقول ، ومع ذلك فمعلوماته ناقصة جداَ ولا توحي بأنه حقاَ أخذها من سجلات بهذه القيمة وهذه الخطورة ، كما أنه كتب مقالته العام الماضي على خلفية اللقاء الثالث والستون لهذا المؤتمر آو لهذا النادي كما يختار البعض في تسميته ، ومن خلال تتبعي ظهر لي أن لقاء العام الماضي ٢٠١٥هو أول اجتماع لهذه النخبة يحظى بضجيج
إعلامي وأن الاجتماعات قبله لم تكن لها هذه الهالة وذلك الضجيج ، أي أن المؤتمر انعقد سنوياَ اثنين وستين مرة دون أن يثير ذلك ارتياب أحد أو فضول أحد من الصحفيين ، فهل حدث هذا الضجيج اتفاقاَ وبمحض المصادفة أم أن ذلك كان مقصوداً ويمثل سياسة إعلامية جديدة لرواد هذا المنتدى ، أما أنا فأرجح الاختيار الثاني حيث أستبعد أن تجتمع شخصيات بهذه القوة من أوربا والأمريكتين سنوياً أكثر من ستين مرة وتنجح في إخفاء نشاطها طيلة تلك الأعوام ثم يتم اكتشافها أو الترويج للكشف عنها فجأة ودون مقدمات.
وتَغَيُّر سياساتِ الجمعيات السرية وانتقالها من السرية المحضة إلى علنية نسبية ليس جديداً ، فأكبر الجمعيات السرية في العالم وهي الماسونية غيرت سياستها في محافلها العالمية وأصبحت تدعو وسائل الأعلام للحضور والتصوير وإجراء اللقاءات مع الماسون ، وبالطبع لم يكن الماسونيون الحاضرون في تلك المؤتمرات العلنية من أقطاب المنظمة أو المحركين لها بل ولا من أرباب الدرجات العليا فيها بل هم من المبتدئين أو من أرباب الدرجات الدنيا أو من الذين لا يؤثر الكشف عن هوياتهم على النمط السري للمنظمة أياً كانت درجتهم وهناك من تُكشف أسماؤهم للدعاية والترويج لهذه المنظمة كأسماء الكثير من العباقرة والأدباء والمصلحين الذين يغلب على الظن أنهم انظموا للماسونية انخداعا بشعاراتها البراقة وكثير منهم لم يتجاوزوا المراتب الأولى منها.
بل إن التلفزيون الصهيوني في فلسطين المحتلة قد أُذِن له بنقل جزء يسير من أحد الطقوس الغامضة للقاء المحفل الماسوني في القدس بل وكشفت عن اسم وصورة رئيس هذا المحفل حينها .
وعَوْدَاً على مؤتمر بيلدربيرغ نجدُ الغالبَ على المقالات التي تحدثت عن هذا اللقاء وصفها إياه بحكومة العالم الخفية ، وهو وصف اشتهر إطلاقه على الماسونية ، بل هو اسم أحد أشهر الكتب التي تحدثت عن أثر الماسونية في التغيرات التاريخية في مطلع العصر الحديث لمؤلفه سيبيريدوفتش والمتوفى سنة ١٩٢٦ ومع هذا الارتباط في الوصف بين نادي بيلدربيرغ والماسونية إلا أني لم أجد أحداً ممن قرأت مقالاتهم ربط بين المنظمة وهذا المؤتمر مع أن أوجه الشبه كبيرة جداً من حيث نوعية الحضور وسرية لقائهم.
ومع اعتقادي الشخصي بهذا الارتباط الذي لا أملك حتى الآن عليه دليلاً مادياً سوى التشابه في الأسلوب والأهداف بل والنتائج فأنني أعتقد أيضاً أن الاستثارة الإعلامية حول هذا المؤتمر وفي هذا الوقت بالذات لها أهدافها العميقة ولم تأت مصادفة أو نتيجة لنباهة مؤلف أو صحفي استيقظت فجأة .
أعتقد أن الأمر جاء لإرهاب السياسيين في الشرق الأوسط خاصة وإيصال رسالة إليهم مفادها: إن مصير العالم محسوم وأنه لا مناص لكم من الرضوخ لما يُطلب منكم دولياً ، وأنكم مهما فعلتم فمصيركم ومصير بلادكم هو ما نقرره نحن لا ما تقررونه أنتم ، نحن -الكلام على لسان أعضاء مؤتمر بلدربيرغ- نحن عمالقة المال والسياسة والحرب في العالم ولا يمكن أن نخرج الأمور في منطقتكم عما نريد نحن .
وهي رسالة خطيرة وسيئة المفعول فيما لو اقتنع بها أي من متخذي القرار أو مستشاريهم في الشرق الأوسط ، فهي تدعو بحق إلى السلبية والإحباط وخلق قناعة بالعجز عن فعل شئ ، أو أن أي فعل يمكن أن نبادر إليه في مواجهة هذه القوى العالمية سيكون مردوده منقلباً علينا لا لنا .
والحقيقة التي هي محل الجزم عندي هي أن الماسونية العالمية والتي حققت في السنوات الثلاثمائة الأخيرة نجاحات كبيرة جداً تعاني اليوم من مظاهر عجز كبرى ومن مشكلات في إدارة العالم
لم تحلم أن تواجهها من قبل ، لكن مظاهر العجز هذه لم تستثمر إطلاقاً من شعوب العالم وقياداتها التي لا تريد السقوط في براثن الماسونية أو كما يزعمون حكومة العالم الخفية .
إن مكامن العجز التي. يواجهها الماسون في إدارة العالم تحتاج من دول العالم الإسلامي خاصة إلى دراستها ومن ثم ضربها بقوة كي تنفك أعظم القيود التي كانت تحول بين المسلمين واستعادة نهضتهم .
محمد بن إبراهيم السعيدي

التعليقات

7 ردود على “من إيحاءات بلدربيرغ”

  1. بارك الله بك شيخنا الفاضل.
    أسمع كثيرا وأحيانا أقرأ عن هذا المحفل وغيره مثل فرسان مالطة، ولم أهتم بها كثيرا ، لأني أعتبر ذلك تحصيل حاصل وفقا للصراع البشري منذ الأزل وقل كل يعمل شاكلته.
    المهم المطلوب من هذه المحافل المختلفة تعطيل أفق التفكير البشري وجعله يدور في فلك النخب الغربية حماية لديمومية مصالحها المتوارثة منذ قرون قد تكون أبعد من القرون الوسطى.
    ولا أريد الإسهاب في هذا الباب ولدي قراءات كثيرة عنه، فما أوردته فضيلة الشيخ محمد السعيدي في مقالتك الرائعة عين الصواب.
    والفرق أن الغرب جنح منذ الحروب الصليبية لبناء مؤسسات قوية في كل مجالات الحياة حفاظا على كياناته المختلفة،في مقابل مشرق ذو عقيدة سماوية خاتمة متينة ، ولكنه يفتقد إلى بناء مؤسسات ، لأسباب كثيرة لا يمكن إيجازها بهذه العجالة.
    تحياتي
    الشيخ لطيف السعيدي\لندن
    ٩ \ رمضان \١٤٣٧ هجرية
    ١٤ \ ٦ \ ٢٠١٦ ميلادية

  2. أشكركم شيخنا الفاضل على هذا المقال. أظن بفهمي القاصر أنه لو تكون هناك دراسة معمقة وذات بعد استراتيجي يقوم بها ويشرف عليها نخبة من كافة التخصصات ذات الأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والعسكرية وغيرها ليخرجوا بتحديد نقاط القوة والضعف ومكامن الخلل والوصواب لدينا كأمة (في السعودية على الأقل) لتبنى عليها خطة محكمة محترفة -في الوضع والبناء- ومبنية على فهم عميق لواقع الأمة وواقع العالم والأحداث ذات الصِّلة ومكامن القوة والضعف فيها كلها، وتكون خطة لمواجهة هذه الأخطار والأعداء الواقفين ورائها، حتى نبني ونصنع الفرصة والقدرة على ضربهم وضرب خططهم ولا تكون لهم اليد العليا علينا بالكلية بحكم ما هو تحت أيديهم من اقتصاد وسياسة وقوة عسكرية وإعلامية، بمعنى نتبع مبدأ (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…) بحيث أن هذا الإعداد وهذه القوة تكون قد بنيت على أساس متين من العلم والدراسة والتفقه مما يجعل قوتنا وسلاحنا لا أقول موازيا ولكن مؤثرا وَذَا قيمة، إذ أننا لن نقراعهم بقوة موازية قريبا، وهم الذين سعوا في بناء قوتهم لأكثر من مئة عام، ولكن نؤمن أنه (ومن النصر إلا من عند الله) (وإن تنصروا الله ينصركم)…أقول ذلك لأنني أظن أنه في الغالب ما قد يمنع أو يعيق قادة المسلمين -أصحاب المبادئ منهم والذين يعنيهم مصير شعوبهم وحالهم- عن التصدي الحقيقي لهذه المخاطر الغير مباشرة وإيقاف من ورائها في بلادهم على الأقل، هو أنه بالنظر السريع إلى ميزان القوة وبالاعتماد على مبدأ رد الفعل الآني (والذي أظن أن أغلب سياسات بلدان المسلمين المعنية بهذه المخاطر تسير عليها في إدارة شؤون البلا) سيرون ضعف وعدم قدرة لديهم لمواجهة قوة مثل هذه وأنها تمثل تهديدا حقيقيا لمصالحهم (إن لم تكن لهم) فحين إذ سيبادرون لفعل أي شيء يجنبهم أَذًى هذه القوة ويبقي الأحوال على ماهي عليها، بمعنى أنه ليس هناك تخطيط أو وعي (ثاقب وحقيقي) للأحداث والأحوال وبنائا عليه تكون الاستجابة والتفاعل مع الأحداث من قبل القادة المسلمين ودولهم (المستهدفين من قبل هذه القوة الغربية) في صورة رد فعل أني وغير محسوب ومدروس (في غالب الأحيان) بعكس لو كان الأمر كما ذكرت في البداية من وجود دراسات وتفحص ونظر علمي محكم تبنى عليه القرارات (كما الحاصل فعليا لدى الغرب).،

  3. مع انك قلت انك لا تملك دليل مادي على الارتباط فنهاية المقال تؤكد ارتباط المؤتمر هذا بالماسونيه
    اذا كان كذلك فخاتمة المقال متماهيه مع الموضوع وان كان هناك اختلاف بين هذا المؤتمر والماسونيه ففضلا اكمل الحديث والتحليل

  4. نحتاج لتعميق الثقة بالله عزوجل ، إذا وثقوا بالله وتوكلوا عليه حق توكله ماعليهم من أي مخطط ولا من أي جهة
    ( ياجبل مايهزك ريح )

  5. يقول أكمل:

    عدم استغلال الفرصة نابع من معاناة الأمة من مرض الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت.
    إذا صح تحليلكم للحدث، فإن كشف تفاصيل اللقاء له دلالتان؛إما أنه استهتار بالخصوم،
    أو أنه محاولة لإرهابنا أكثر بعد فشل عملية إرهاب الأمة بإشعارها بوجود تنظيم سري مسيطر( الفشل في القضاء على الإسلام الذي مازال ينمو رغم المؤمرات).وهذه الدلالة -وهي محاولة إرهابنا- دليل على قوة الأمة وأنها لا تموت بل كتب لها الخلود.
    اما الدلالة الأولى فلا تخلو من بشارة برغم مرارتها ؛ ذلك أن أول درجات الانهيار هو استهتار الخصم بخصمه، مما يدفعه للاستكانة وترك الحذر، فإذا أضفنا إلى ذلك يقيننا ببقاء طائفة على الحق ظاهرين منصورين، رجونا أن يصلح الله الأمور، ويكشف الغمة. والله أعلم

  6. أتصور أن المفترض حاليًا التركيز على الدول الإسلامية ذات الأيدي العاملة الرخيصة و دعم المشاريع الاقتصادية فيها بأموال إسلامية بهدف تصدير منتجات هذه المشاريع للعالم أجمع، تركيا نموذجًا، والسودان وبنقلاديش مثالًا لتوافر المصادر الطبيعية وإندونيسيا لرخص الأيدي العاملة نسبيًا.

    وكما قال سفيان عن المال: لولا هذا لتمندل بنا هؤلاء الملوك.

  7. يقول سعيد:

    ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.