ثقافة وفن

أبو طبلة… وداعاً!!…في مهنة المسحراتي… شيخ كار ونقيب وشاويش

منير كيال : 

لعلّي لا أجافي الحقيقة إذا تذكرت، أنه كان يسحر مدينة دمشق قبل خروجها من قوقعتها بداخل السور، مسحر واحد، يقف بمكان مرتفع من المدينة فيشرع بالقرع على طبلته وهو يصيح ليوقظ الناس إلى سحورهم بقوله:

يا سامعين ذكر النبي (ص) عالمصطفى صلوا
لولا النبي ما انبنى جامع ولا صلوا
يا نايم وحد الدايم
يا نايم وحد الله
لا إله إلا الله
وقد ارتبط إيقاظ الناس إلى سحورهم بفريضة الصيام، كان المسلمون بعهد رسول الله (ص) يفطرون على أذان بلال (ر) ويمسكون عقب أذان ابن مكتوم. وقد اشتهر بالتسحير ابن نقطة ببغداد والزفري بمكة المكرمة، كان ابن نقطة يوقظ الخليفة الناصر في بغداد فلما توفي ابن نقطة خلفه ابنه، وكان رقيق الحال، وله صوت حسن، فوقف تحت قصر الخليفة وأنشد:
يا سيد السادات
لك في الكرم آيات
أنا ابن أبو نقطة
تعيش أبويا مات
فعرفه الخليفة وقربه إليه.
أما الزفري، فقد حدثنا عنه ابن جبير الأندلسي من خلال رحلته إلى بلاد الحجاز بالقرن السادس من الهجرة بقوله:
«والمؤذن الزفري يتولى التسحير بمكة المكرمة من الصومعة التي بالركن الشرقي من المسجد الحرام، بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم وقت التسحير داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، فيقول:
قياما قوماً… قوماً للسحور
فيردد الطفلان ما قاله، ثم ينشد:
أيها النوام قوماً للفلاح
وأن جيش الليل قد ولى وراح
اشربوا عجلى فقد لاح الصباح
تسحروا غفر الله لكم
تسحروا فإن في السحور بركة
وقد نصب الزفري في أعلى الصومعة خشبة طويلة عليها قنديلان من الزجاج كبيران يعدان مدة التسحير. فإذا قرب تبين خطّي الفجر، ووقع الإيذان بالقطع، حط (انزل) القنديلين من أعلى الخشبة، وبدأ بالأذان، وثوّب المؤذنون من كل ناحية بالأذان.
فمن لم يسمع الأذان بالتسحير لبعد مسكنه عن المسجد، يبصر القنديلين، يقدان، فإذا لم يبصرهما، علم أن وقت السحور قد فات.

تسحير دمشق
من المعروف أن وقت السحور قبل صلاة الفجر، فلا بد والحال هذه من تنظيم إمساك الصائمين وإفطارهم بالبلد الواحد.. إلا أن هذا الأمر تطور بدواع ومسببات تختلف من بلد إلى بلد آخر. كما أن العمران في المدن اتسع وشهق، فكان لا بد من المعايشة مع ذلك لأن من الصعوبة بمكان أن يكون تسحير مدينة كدمشق بنفس الأسلوب الذي كان متبعاً يوم كان يسحرها مسحر واحد كما أشرنا.. فكان أن ازداد عدد أولئك المسحرين حتى أصبح لكل حي مسحر خاص به، بل قسم الحي إلى مناطق (مكانات) يتوازعها المسحرون، بشكل يتناسب مع عددهم.
فإن انتصف الليل وخيم الهدوء، وساد السكون مدينة دمشق، وغفت بين أحضان الكرى، تبدأ مراسلات المؤذنين بتسابيحهم وتوسلاتهم ومدائحهم واستغاثاتهم تدغدغ أحلام المدينة، وينطلق نداء أليف حبيب إلى قلوب أهل المدينة بالهزيع الآخر من الليل وهو يردد «يا نايم وحد الدايم».
وتنطلق نقرات على طبلات المسحرين الصغيرة، بسحر وإغراء ونشوة، تشق سكون الليل وتوقظ القوم إلى سحورهم، وتذكر الناس بما عليهم حيال البؤساء والفقراء.
وهكذا كان المسحرون ينطلقون في منتصف كل ليلة من ليالي شهر رمضان مصطحبين معهم عدة العمل (السلة والفانوس والطبلة.. آخذين طريقهم عبر الأزقة والحارات الملتوية المظلمة أحياناً.. يمرون بالأبواب يقرعونها بعصا الطبلة أو سقاطة هذا الباب أو ذاك، وهم يرددون بأصواتهم التي تتفاوت بين الخشونة والحدة، والقباحة والرخامة عبارات شهر رمضان التقليدية، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من شخصية أولئك المسحرين، أو بالنداء على رب الأسرة التي يقرع بابها، حيث تكون العصا تتابع النقر على الطبلة.
وكثيراً ما كانوا ينشدون المدائح النبوية والمعجزات النبوية، ومن ذلك:
ياما سارت لك كامل يا أشرف العربان
حنين بدرك وحنين نورك يا محمد (ص) بان
كف النبي الهاشمي نبع الزلال فيه
أروى العطاش وجيش المؤمنين منه
وإذا استوحش الواحد منهم، قد يعمد إلى دعابة مع من يقوم بإيقاظهم للسحور كقوله:
قوموا إلى سحوركم..
إجا القط يزوركم
كشف المكبة وأكل الكبة
وراح عليكم سحوركم.
وبالطبع فقد عنى بالمكبة آنية من القصب تُطب على الطعام بأرض الديار أو باحة المنزل.
في جميع الأحوال فإن المسحر وأقواله صنوان متلازمان، وبالتالي فإن مجرد تذكر أي من مسحري مدينة دمشق، يتداعى إلى الذاكرة الكثير من هذه الأقوال، من مدائح نبوية وأزجال تحض على البر والكرم، والتقوى، والحنين إلى زيارة بيت الله الحرام.
فضلاً عن هذا فقد طوّع المسحرون أقوالهم مع معطيات حياتهم وحاجاتها بأسلوب سهل ممتنع يمكن أن يستسيغه الجميع.. وكان من الممكن أن نميّز بين أقوال المسحرين في فترة ما بعد الإفطار وأقوالهم في فترة السحور.
ويمكن القول إن أقوال المسحرين بفترة ما بعد الإفطار، تكاد تنعدم فيها المدائح النبوية والابتهالات والتوسّلات، لضيق هذه الفترة، وبسبب انشغال الصائمين بالإفطار، أو انصرافهم إلى صلاة التراويح أو القيام بزيارات المباركة بشهر رمضان، ومنهم من كان ينصرف بعد أداء صلاة التراويح إلى المقهى للاستماع إلى الحكواتي أو لمشاهدة عرض من عروض كركوز وعيواظ (مسرح الظل).
فضلاً عن هذا، فإن المسحر بدمشق، كان لا يكاد يبدأ النقر على الطبلة حتى يتراكض الأطفال نحوه، يرافقونه وهم يطلبون إليه تقديم أهازيجه المحببة فرحين منشرحين، بعد أن قام الواحد بالصيام حتى درجات المئذنة (الصيام حتى الظهر) أو الصيام النهار كله، رغبة منهم بتلك الأهازيج التي يردّدها لهم المسحر، وقد آثروه مما لذّ وطاب من مآكلهم الطيبة حباً بتلك الأهازيج التي ولعت الطفولة بها، بصوته القريب إلى نفوسهم، الأثير إلى قلوبهم، وكان مما يزيد حبهم للمسحر السماح لهم بحمل سلّته أو النقر على الطبلة، فيشعر الواحد منهم وكأنما ملك الدنيا.
ويشدّني الحنين إلى طفولتي في ثلاثينيات العقد الثالث من القرن المنصرم (العشرين)، يوم كنت أعدو مع أندادي وراء مسحر حارتنا بحي الشاغور، ونحن نقول له:
أبو طبلة مرته حبلة
شو جابت… ما جابت شي
جابت جردون بيمشي
فيكر علينا ونفر، ونعود فنسترضيه طالبين أن يقصّ علينا حكاية البرغوث وما عاناه منه، أو حكايته مع الضراير أو مع قطته أم زليخ، وإزاء إصرارنا يسايرنا، ونتحلق حوله لنسمع معاناته مع البرغوث، ومع زوجته والضرة التي أتى بها إليها حتى إنه كاد يبيع طبلته لكثرة ما كادتا له، وبالتالي حكايته مع قطته أم زليخ التي تريد أن تتزوج… وهو بكل واحدة من هذه الحكايات لا ينسى أن يختم كلامه بقوله:
أولادكم قرقشوني
حيطانكم طرمخوني
بالرز بحليب غسلوني
من المعمولات لا تنسوني
كل سنة وأنتم سالمين
وأولادكم سالمين
أحياكم الله إلى كل عام
فضلاً عن ذلك فإن المسحر لا يكاد يكف عن التنديد بالبخل والبخلاء ويحضّ على الكرم وعمل الخير، ومن ذلك قوله:
قالوا البخيل مات.. قلنا استراح منه الحي
كم خزوة بالدنيا عملها وهو حيّ
يستاهل الكي بالنار يللي (من)
ما عمل عملة بالدنيا وهو حيّ
كبرنا ونحن نحلم ببراءة صوت المسحر، ذلك الصوت الذي طبع بنفوسنا أثراً لا يُمحى، وبقلوبنا أثراً لا يُمحى، وبقلوبنا محبّة خالصة، فرمضان عندنا من غير المسحر مو حلو، والمسحر فاتحة الخير بشهر الخير والبركة والمسحر أيضاً حامل بشارة شهر رمضان بلياليه الحلوة وخيراته الوافرة.
كبرنا والمسحر لا يزال يربطنا بأحلام الطفولة، وكبرت نظرتنا إليه كإنسان يترك دفء فراشه وعياله، ليوقظنا على قرعات طبلته الرتيبة بأماديحه النابعة من أحاسيسه ومشاعره، وانتقاداته للبخل والبخلاء، وحضّه على الكرم والبّر بدافع من إنسانيّة الإنسان.
ولم يكن المسحرون بين العقد الثالث من القرن العشرين والعقد الخامس منه، أفراداً من عامة الناس، اتخذ كل واحد منهم التسحير حرفة (كاراً).
كما أنه لم يكن لأي من الناس أن يمارس التسحير إذا خطر له ذلك، وإنما كان التسحير يرتبط بتنظيم حرفي على غرار ما كان لسائر الحرف والصناعات الدمشقية، والعمل بالتسحير كان متوارثاً في عدد من الأسر الدمشقية، بل يدخل ذلك التنظيم بنظام الأصناف أو ما يعرف بمشيخة الكارات.
فكان لحرفة التسحير شيخ كار يساعده نقيب وعدد من الشوّاش (ج.م. شاويش) وعدد آخر من المساعدين، ومهمة هؤلاء الإشراف على شؤون التسحير بدمشق وحلّ الإشكالات التي قد تقع بين المسحرين حول حدود مطاف كل واحد منهم.
فشيخ الكار أعلى المسحرين رتبة، وله سلطة معنوية معترف بها، ومنصبه وراثي، وقد ينتخب في حال عدم وجود وريث يليق بالمقام، ومهمة شيخ كار المسحرين تنظيم عمل المسحرين كل في مكانه، فضلاً عن تحديد وقت قيام المسحرين بتسحير الناس، وهو يقوم على فحص المبتدئين ويستطلع على مكافآت كل من المسحرين، لأن العُرف بدمشق، أن المسحر لا يتغير من دون مبرر بسبب منزلته لدى من يقوم على تسحيرهم، وأن مجرد قيام مسحر غريب بعملية التسحير، فإن أهل المطاف (السكان) لا يرضون بذلك.
وكان لشيخ الكار أن يجتمع بمسحري دمشق بشهر شعبان لبحث أخطاء العام المنصرف وتلافي ذلك برمضان القادم، وله أن يوافق على اتفاق أسرة امتدّ بها التسحير على التنازل إلى مسحر آخر، كما أن على شيخ الكار أن يوفر تسحير المطاف الذي قد يضطر مسحروه للغياب بسبب المرض أو نحو ذلك.
أما النقيب فهو ينوب عن شيخ كار المسحرين في جميع مهامه، ويقوم بمهمة الدورية على جميع المسحرين بمطافاتهم للتأكد من حسن قيام كل منهم بالتسحير على أكمل وجه، وهذا بالطبع لا يحول دون القيام بتسحير أهل المطاف الخاص به.
وإذا صادف أن تراخى مسحر بواجبه ولم يقم بالتسحير بمكانه على أكمل وجه، فإن للنقيب أن يفرض على ذلك المسحر الغرامة المستحقة.
ويقوم الشاويش في مشيخة كار التسحير بإبلاغ رغبات شيخ الكار من كل مسحر بدمشق، فهو أشبه بحجر مقذاف بين شيخ الكار والمسحرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن