تحدي ترامب.. العولمة انعشت الرأسمالية المالية في أميركا واضعفت الرأسمالية الانتاجية

تتنازع الولايات المتحدة اليوم رؤيتان مُتباينتان للكون. تعبّر إحداهما عن الحال “الترامبية”. الأخرى نابِعة من أوساط الدولة العميقة بمؤسّساتها الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية. على صعيد العلاقات الدولية يفضّل دونالد ترامب ألا يعتبر أياً من القوى الرئيسة المُنافِسة لأميركا مسألة ثابتة وراسِخة. بالنسبة إليه كلُّ من روسيا والصين يمثل مشكلة. لكن في مقياس الأكثر خطورة، بكين تأتي أولاً.

يرى مُنظّرو اليمين الشعبوي القومي أنه يتعيَّن تكرار ما فعله هنري كيسنجر أوائل سبعينات القرن الماضي. وقتها قام وزير الخارجية الأميركي السابق والمُخضَرم بالانفتاح على الصين وجَذْبها إليه مكرّساً ابتعادها عن روسيا بمسافات ضوئية. بنظر تيار ترامب ينبغي القيام بالعكس هذه المرة. بدل جَذْب الصين التي كانت الطرف الأضعف حينها، ينبغي استمالة روسيا اليوم بُغية إبعادها عن بكين. بالنسبة إلى دولة الأمن القومي تُعدّ هذه الرؤية بمثابة كُفرٍ بوّاح. هرطقة لا تحتمل المزاح.

التبايُن بين الرؤيتين ينسحب أيضاً على بعض القضايا الساخِنة في العالم. الاتفاق النووي مع إيران مِثال حيّ على ذلك. دولة الأمن القومي المُخضرَمة في التعامُل مع مثل هذه القضايا رأت فيه ضرورة لمُعالجة مسألة طارئة هي الجهادية السلفية في العراق وسوريا. جسّد الاتفاق حاجة أميركية لنوعٍ من التهدئة مع طهران. ربما نوع من التوازي في العمل على المسرح المُهدّد لكلٍ منهما.

كانت الخطوة ضرورية أيضاً لحرمان الصين من امتداد غرب آسيوي سيما بعد انتهاج إدارة أوباما مبدأ الاتجاه شرقاُ (التفرّغ لمواجهة الصين).

ترامب وتياره لا يريان أية مشتركات مُمكنة مع الإيرانيين. سببان أساسيان وراء ذلك. تُمثّل إيران بنظرهما امتداداً غرب آسيوي للصين (وليس حاجزاً لها) ووصلة هامة على “طريق الحرير”. هي تُمثّل أيضاً خطراً شرق المتوسّط لا مجال للتعايُش معه.

من الطلقةِ الأولى إلى القذيفةِ الكبرى

في إطار التبايُن بين الرؤيتين الأميركيتين يصعب الفصل بين السياسة الخارجية والمنهجية الاقتصادية. يتّجه ترامب إلى مزيدٍ من الشَحن الذي يُغذِّي عوامل الوَهْن في الجسد الأميركي. هو لا يقصد ذلك بالضرورة. التناقُضات والتيارات المُتماوِجة داخل الدولة الأميركية ليست وليدة هذه المرحلة. التيار الشعبوي القومي ليس جنيناً شائهاً أو غلطة تاريخية.

ما إن وصلنا إلى الهزيع الأخير من عهد باراك أوباما حتى بدأت الشروخ تتجذَّر داخل المجتمع الأميركي. بدأت الفروقات تصبح جليّة ما بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية. الأولى إجمالاً أكثر التصاقاً بالمناخ الليبرالي المُندرِج في مسالك العولمة. أما الأرياف الأقل حضريّة فيغلب عليها المجتمع الأبيض الأقل ثراء والأكثر توثّباً للاعتراض على مسار العولمة.

ثمّة صيرورة لهذا الواقع، بدأت تتطوَّر منذ عهد رونالد ريغن وطَفْت مظاهرها اليوم على السطح. مثّلت مرحلة ريغن الطلقة الأولى، لكن القذيفة الكبرى جاءت من رَحْم الأزمة المالية التي ضربت أميركا بين عامي 2008 و2009 ثم اجتاحت العالم. أصبحت هذه التبايُنات أكثر جلاء اليوم. بتنا نرى بوضوح تعبيراتها الثقافية والدينية والاقتصادية والهويّاتية داخل البنى المجتمعية. من هذا المُنطلق نجح ترامب في التعبير عن حالة اجتماعيةٍ مُتناميةٍ في حين فشل غيره.

كيف ارتدّت أميركا على العولمة؟

الصعود القوموي الشعبوي الذي يمثله ترامب ناقِم باختصار على العولمة وتجليّاتها في المجتمع الأميركي. يرى هذا التيار أن العولمة كما عُرِفَت منذ فترة نشوئها أواسط التسعينات إلى حين تمكّنها من ناصية العلاقات الدولية لم تعد مُجدية كما بدت في بداياتها. أصبحت وبالاً على المجتمع الأميركي وعلى جهاز العمل والإنتاج فيه. بفعل العولمة كثير من الصناعات الأميركية تّم ترحيلها إلى خارج البلاد حيث الكلف أقل. داخلياً نمت الرأسمالية المالية فيما تراجعت الرأسمالية الإنتاجية. خلّف هذا الوضع الكثير من العاطلين عن العمل. الشركات المُستفيدة من العولمة اليوم تجد نفسها مُصطَّفة إلى جانب دولة الأمن القومي في مواجهة “الترامبية”. هذا الموضوع ينسحب على الحزبين ولا يتعلّق حصراً بالحزب الجمهوري.

الصعود الترامبي الذي يمثل اليمين الشعبوي القومي يقابله أيضاً صعود تيار يساري شعبوي قومي. يتقاطع التياران في مساحةٍ ضيّقةٍ رغم انفصالهما في معظم القضايا. الموضوع الهويّاتي الثقافوي أصبح عاملاً مُقرّباً بغضّ النظر عن مدى التشابُك في الموضوع الاقتصادي. هذا يُحيلنا على العولمة الثقافية. عهد بيل كلينتون طغت عليه فكرة التعدّدية الثقافية. مُنظَّرو هذا الاتجاه اعتبروا أنه آن الأوان لفرن الصَهْر الأميركي أن يستوعب برحابة إفساح المجال أمام الأعراق والإثنيات والألوان للتعبير عن ثقافاتها ضمن إطار اللوحة الأوسع. بالنسبة إلى الشعبويين القوميين هذا مفهوم عدائي  يُعرِّض الأمن القومي الثقافي للخطر.

روسيا بالمرصاد.. قوّة الإعاقة

حاول ترامب استمالة روسيا. راهنَ على اجتذابها إلى شراكةٍ ولو من موقعٍ رديفٍ في قيادة العالم. اعتقد أن إغراءها بمنفعةٍ من هذا النوع سيجعلها تُعيد النظر بعلاقتها الوثيقة مع الصين.

خلال قمّة هلسنكي التي جمعت رئيسيّ الولايات المتحدة وروسيا صيف العام الماضي اكتشف ترامب أن بوتين بعيد من التفريط ببوليصة التأمين الصينية. بالنسبة إلى الروسي الصين حليف مُحتَمل يمكن أن يُصلّب معه جبهة أوراسية بمواجهة أيّ ظرف عصيب وبمعزل عمن يحكم واشنطن.

في إطار العلاقة المُثلّثة بين أميركا والصين روسيا لدى ترامب رغبة أكيدة بأن تكون هذه العلاقة متساوية الأضلاع بحيث لا يكون ضلع الصين مع روسيا أقصر من ضلع الولايات المتحدة مع الصين أو مع روسيا.

تحكم روسيا نُخبة غير مُتجانِسة الهوى. الكتلة الأقوى والأساسية فيها هي دولة الأمن القومي وعلى رأسها فلاديمير بوتين. إلى جانبها كتلة وازِنة لكن أقل حجماً وتأثيراً وهي تضمّ “الأطالسة”.

الطرفان يُريدان شراكة ندّية مع الولايات المتحدة في قيادة العالم لكن كل منهما وفق أسلوب مختلف. دولة الأمن القومي تريد ذلك بنديّة كاملة وبشروطها. الأخرى تسعى إلى تجنّب الاحتراب والتنابُذ ولا تريد إغضاب الولايات المتحدة والأوروبيين. تجلّى هذا الأسلوب المُتساهِل والليّن في ليبيا. ديميتري مدفيدف أحد رموز الأطلسية تجرّع مرارة مُسايَرة الغرب في هذا الملف ونَدِمَ لاحقاً على عدم استخدام الفيتو.

كتلة الأمن القومي من جهتها اتّخذت القرار. طالما أن الولايات المتحدة لا تُصغي لها سمعاً في شراكة نديّة على مستوى عالمي، فستكون لها بالمرصاد، مُعيقة في كل مكان ممكن. لكن هل لدى روسيا القدرة على ذلك؟

نحن نتحدّث عن قوّة إعاقة وليس قوّة تقرير. الفارِق بين الإثنين أن قوّة الإعاقة لا تتطلّب منسوباً فائِضاً من القوّة. أوكرانيا مِثال على ذلك. لم يستطع بوتين أن يُغيّر الأمر الواقع الذي فُرِض عليه هناك. بادر إلى ضمّ القرم وعَمَد إلى تسخين الجزء الشرقي من أوكرانيا. بالنتيجة لم يمكّن الغرب من السيطرة على كامل البلد وحرمه من مينائها الأهم. أصبحت المواجهة مُجمَّدة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى