مقالات

كيف ومتى دخلت البشرية عالم الواقع الافتراضي

نظرة تاريخية لتقنية الواقع الافتراضي

في حقيقة الأمر؛ تقنية الواقع الافتراضي (Virtual Reality) ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل هي من التقنيات القديمة والتي يعود تاريخها إلى عشرات السنين في القرن الماضي، فالمفهوم بشكل عام ظهر قبل ظهور الانترنت والهواتف المحمولة، لكن وبسبب عدم توفرهما في ذاك الزمان؛ لم يتحول هذا المفهوم إلى سلعة سهلة الاستخدام والاقتناء.

اليوم يمكن لأي شخص أن يشتري نظارة واقع افتراضي بأقل من 10 دولارات، وإن أراد جودة أفضل من شركة معروفة، فقد تكلفه حينها 30 إلى 50 دولاراً فقط، وأحد أسباب هذا السعر الرخيص؛ هو أن هذه النظارات أو الخوذ ليست قائمة بذاتها، بل يجب عليك -غالباً- استخدام الهاتف الذكي معها، ذلك الهاتف الذي أصبح لدى الصغير والكبير، السبب الآخر هو سهولة الوصول إلى المحتوى المخصص لتلك النظارات (الصور والفيديوهات ذات زاوية 360 درجة).

أول جهاز واقع افتراضي

يمكن أن نقول أن العالم قد دخل عالم الواقع الافتراض من باب السينما، حيث يعتبر الجهاز المسمى “سنسوراما” أو “Sensorama” من أوائل محاولات البشر للدخول إلى عالم الواقع الافتراضي، فقد كانت الفكرة تراود “Morton Heilig” الذي نشر ورقة بحثية عام  1955 بإسم “Cinema of the Future” أو “سينما المستقبل”، ثم تبلورت فكرته في الجهاز الذي قام بتطويره بعد ذلك والذي حمل اسم “سنسوراما” وسجل براءة اختراعه عام 1962.

كان يُراد لجهاز سنسوراما أن يكون متطوراً أكثر من اللازم، فهو لم يكتفي بنقل الصوت والصورة فقط، بل أراد أن ينقل الرائحة والأجواء أيضاً، بالإضافة إلى الحركة التي يصدرها كرسي الذي يجلس عليه المشاهد، وقد صدر الجهاز ومعه 5 أفلام قصيرة يمكن للشخص الاختيار من بينها لمشاهدتها، الفيديو التالي هو مقطع نادر لمقابلة جرت مع صانع الجهاز في بداية الثمانينيات من القرن الماضي:

لكن، ومما يثير الاستغراب، أن هذا الجهاز لم يكن الوحيد الذي فكر فيه مورتون، بل أن له براءة اختراع تم تسجيلها عام 1960 تتحدث عن جهاز بإسم “Telesphere Mask” والذي يشبه كثيراً نظارات الواقع الافتراضي الموجودة في الأسواق اليوم، الصورة التالية مأخوذة من صفحة تسجيل براءة الاختراع (المصدر: Google Patents).

(انقر هنا لقراءة المقالة التي تسلط الضوء على إنجازات مورتن في هذا الحقل).

رغم أن براءة اختراع مورتن قد مثلت التصميم الأول لنظارات الواقع الافتراضي، إلا أن السائد أن أول نظارة واقع افتراضي فعلية هي التي حملت اسم “The Sword of Damocles” والتي بدأ تطويرها عام 1966 من قبل العالم “Ivan Sutherland” وأحد طلابه في مختبرات “MIT”.

جهاز View-Master وذكريات الزمن الجميل

إن كنت من جيل الطيبين فبالتأكيد تتذكر ذلك الجهاز الصغير -الذي حصلت عليه كهدية في أغلب الأحوال- والذي تنظر من خلاله فترى صور مختلفة ثم تعتريك دهشة وفرحة غامرة لأنك ترى المشهد وكأنك مغمور بداخله، نعم … ذلك هو جهاز View-Master

هذا الجهاز (أو اللعبة إن صح التعبير) ظهر سنة 1939، أي قبل جهاز سنسوراما بسنوات عديدة، وهو المنتج الذي لازال متوفراً في الأسواق حتى يومنا هذا (بنسخته المطورة)، وقد عبر عن رغبة الإنسان في رؤية الصورة بكامل حجمها، أن يشاهد الصورة وكأنه مغمور بها، لكن التقنية آن ذاك لم تسعفه في تحريك الرأس ومشاهدة الصورة من جميع الزوايا.

في قصص الكتاب والروائيين

لكن وقبل تلك المحاولات والأفكار الأولية، كانت عقول المؤلفين وخاصة من يكتبون قصص الخيال العلمي، قد أشارت إلى الواقع الافتراضي وأجهزة الواقع الافتراضي بدون ذكر هذا المصطلح، فعلى سبيل المثال؛ السلسلة القصصية “The Man Who Awoke” والتي بدأ نشرها عام 1933 كانت تتحدث عن أشخاص كانوا يتصلون بأجهزة كهربائية من أجل تغيير جميع حواسهم (بما في ذلك النظر) وبالتالي تجربة الحياة عبر واقع آخر من اختيارهم، وهذه هي فكرة الواقع الافتراضي بمفهومها العام.

حَلُم الإنسان بأن يخرج من واقعه الممل -وأحياناً الكئيب- وقد كانت السينما بشاشاتها الكبيرة وأصواتها العالية أحد الوسائل العملية للخروج من الواقع والدخول إلى واقع افتراضي من نسج خيال الكتاب والمخرجين، وفي حقيقة الأمر أنه حتى الألعاب الرقمية في واقعنا المعاصر اليوم هي أحد وسائل الإنغماس في الواقع الافتراضي، واقع من الخيال يندمج فيه المرئ فيذهل عن من حوله، لكن تبقى حاسة البصر هي المعيار الأساسي في تعريف الواقع الافتراضي، فعدم رؤية أي شيء آخر والإحاطة الكاملة بالصورة أو المشهد، هما العاملان الرئيسيان لتحديد هوية الواقع الافتراضي.

الواقع الافتراضي بعد 1970

بعد ذلك وخلال فترة السبعينيات بدأت هذه التقنية والأجهزة الداعمة لها تنتشر لكن على نطاق ضيق جداً، فقد كانت تُستَخدم في المجالات العسكرية والطبية وبعض المجالات الأخرى، في حين أنها لم تصل ليد المستهلك بعد.

من العلامات البارزة في تاريخ الواقع الافتراضي، هو ما أنجزته معامل جامعة MIT سنة 1979 والمتمثل في خارطة تفاعلية لمدينة آسبن الأمريكية، عبارة عن جهاز يحتوي على شاشة تشبه التلفاز، تقوم بعرض شوارع المدينة مع إتاحة الإمكانية للمُشاهِد باختيار الإتجاه والتحكم في حركة السير وزاوية العرض، تشبه إلى حدٍ ما خدمة (Street View) التي تقدمها قوقل عبر خرائطها، الفيديو التالي يحتوي على عرض تجريبي لهذا الجهاز:

الألعاب والواقع الافتراضي

صحيح أن مفهوم الواقع الافتراضي قد دخلت إليه البشرية من باب الأفلام والسينما، لكن ومع ثورة الألعاب الإلكترونية في عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اتجهت بعض شركات الألعاب آنذاك للتفكير في هذه التقنية من أجل إنتاج جيل جديد من الألعاب قد يجذب لهم المزيد من العملاء، فقد أسست شركة “أتاري” معمل أبحاث حول هذا المجال عام 1982، لكن ما لبث أن أُغلق بعد سنتين بسبب انهيار سوق الألعاب العالمي آن ذاك.

الظهور الأول لمصطلح Virtual Reality

الظهور الفعلي لهذا المصطلح (الواقع الافتراضي) والبدء العملي في تصنيع وبيع منتجاته كان منتصف الثمانينيات، وقد كان على يد شخص يدعى “جيرون لينير” -الذي يعتبره البعض الأب الروحي للواقع الافتراضي- والذي أسس شركة “VPL Research” وبدأ بتطوير وتصنيع بعض أجهزة الواقع الافتراضي مثل القفازات الناقلة للبيانات والتي تم بيعها بعد ذلك من طرف شركة “Mattel” بسعر 75 دولار.

إحدى رائدات تقنية الواقع الافتراضي هي “نيكول ستنجر“، والتي قامت بين عامي 1989 و 1992 بإنتاج أول فيلم يتبع أسلوب الغمر “immersive movie” بإسم “Angels” والذي يعتبر أول فيلم واقع افتراضي بالمفهوم المعروف اليوم، وقد اتحدت فيه الصورة مع الصوت وكذلك اللمس (عبر القفازات المتصلة) لصنع تجربة جديدة ومميزة من تجارب الواقع الافتراضي، الفيديو التالي يعرض جانباً من ذلك الفيلم.

في أوائل التسعينيات كان مصطلح “الواقع الافتراضي” قد بدأ بأخذ الصدى والانتشار وأصبح العالم يتحدث عنه كونه الثورة القادمة التي ستنتقل بالبشرية إلى مرحلة جديدة -أو هكذا اعتقد البعض-، التقرير التالي يعود تاريخه لعام 1991 (حسب المصدر) وهو يتحدث عن هذه التقنية والتي كما يظهر أن العالم قد بدأ بالانبهار بها:

في تلك الفترة (التسعينيات) كانت الشركات العملاقة -من بينها شركات الألعاب- تتجه بشكل قوي نحو إنتاج أدوات الواقع الافتراضي للانتقال بالألعاب إلى مرحلة جديدة، وقد كان من بين تلك الشركات شركة ننتندو التي أطلقت جهازاها المسمى “Virtual Boy” والذي أطلق في الأسواق بسعر 180 دولار، كان يعرض صوراً ثلاثية الأبعاد لكن باللونين الأحمر والأسود فقط، وبسبب السعر وضعف التطبيقات الداعمة له، فشل في الاستمرار وتوقفت الشركة عن إنتاجه بعد فترة قصيرة.

أجهزة أخرى عديدة أطلقت في تلك الفترة، وشركات كثيرة حاولت المنافسة في هذا الحقل، وقد كان من بين المنافسين جهاز “Forte VFX1” الذي أطلق في 1995 بسعر 600 دولار تقريباً، والذي هو عبارة عن خوذة رأس مخصصة للألعاب مقدمة بشكل احترافي بحسب مقاييس تلك الفترة، يمكن معرفة المزيد عنها عبر هذا التقرير المصور في اليوتيوب.

إختفاء ثم عودة

كما قال بيل جروس في محاضرته الملقاة عبر منصة TED، أن أهم عامل لنجاح الشركات الناشئة والتي تأتي بأفكار جديدة، هو أن تلك الأفكار تأتي في الوقت المناسب، الوقت الذي يكون فيه العالم متقبلاً لاحتضان تلك الأفكار ومن ثم الانتشار وتحقيق النجاح، لذلك فأدوات وأجهزة الواقع الافتراضي التي ظهرت في عقد التسعينات لم يكن وقتها المناسب آنذاك، ولم يكن العالم مستعداً بعد لهذا المفهوم الجديد، وهذا ما قد يفسر فشل الكثير من المنتجات ثم اختفاء مصطلح “الواقع الافتراضي” عن الساحة لعدة سنوات.

يقول البعض أن العودة الثانية والانتشار الأوسع لتقتنية الواقع الافتراضي قد بدأ حين قام “بالمر لوكي” بتصميم النموذج الأول لخوذة رأس ثم إطلاق حملة تمويل جماعي عبر منصة كيك ستارتر، إنها “Oculus Rift“، والتي حصدت تمويل فاق 2 مليون دولار عبر المنصة، وأسس صاحبها الشركة التي استحوذت عليها فيسبوك في 2014 و ….. بوووم ، انفجرت فقاعة “الواقع الافتراضي” ثم وصلنا إلى ماوصلنا إليه اليوم.

مصادر ومراجع:

زر الذهاب إلى الأعلى