يوميات قاطن معسكر ٢٥

يوميات قاطن معسكر

(٢٥)

مرّ يومان على قدوم ثلاثة من أفراد الشرطة إلى منطقة شرق معسكر كلمة لإعتقال خالد جار علي ( يوميات قاطن معسكر ٢٣)، بعد أن أُقتيد إلى بوابة المعسكر حيث مكتب قيادة الحرس، لم يكن حمّاد موجوداً، فتم تهريبه خارج المعسكر، حيث كانت هناك عربة في انتظاره، عند البدء إطمأن خالد بعض الشيئ، ولكن عندما رأى العساكر يسلمونه لمجموعة أُخرى أوجس خيفة، فقد قاموا بعصب عينيه ووسوس له أحدهم “الليلة يا جاسوس الله جابك لينا”، قادته هذه المجموعة إلى منطقة تُعرف ب’المناطق المحررة’، محررة من قوات النظام، وتسيطر عليها مجموعات حملت السلاح من أجل الدفاع على أنفسهم وأهليهم، وللمطالبة بحقوقهم المهضومة من قبِل حكومة المركز على مرّ العقود بعد جلاء المستعمر، كان خالد يرتجف وهو في رحلة طويلة مظلمة بالنسبة له، فكان يتوقع الأسوء من جرّاء ما فعل خلال الفترة الماضية.

ضحيته الأولى سيدة في متقدم العمر، وتكنّى بالميرم في معسكر كلمة، كانت رغم قلّة ما عندها تقوم بإطعام الناس وعلاجهم وتوليد الحوامل، كانت منظمة خيرية في نفسها، بل أعظم من اي مؤسسة تعاني البيروقراطية، فذاع صيتها واصبح الخيريين من أهل الإقليم يقدمون لها المساعدة ومن خلالها الى المساكين في المعسكر، وبذلك يضمنون ان جُل ما قدموا يذهب للمحتاجين، لذلك يكثر تردد الشباب إلى مكانها لأخذ الطعام وإطعام الناس، فقام الجاسوس خالد ومقابل حفنات لا تسوى من المال، وأوشي بها لحمّاد والجنجويد، وقال ان عملها الخيري واجهة لدعم التمرد. تم اعتقالها ولم يعرف لها أثر.

ضحيته الثانية كان مراهق لا يعرف احد كم عمره، ولكن وجهه الطفولي وحشرجت صوته تدل على انه حديث البلوغ، قام بينهما شِجار بسبب كرة القدم، وخالد يكبره بما يقارب السبع سنوات، كان أخ ذلك الشاب من الذين آثروا الإنضمام للحركات المسلحة، فلم ترق له حياة او لا حياة المعسكر. بسبب تلك المشاجرة، أوشي به خالد ان هذا المراهق يعمل كعين شقيقه في المعسكر ويقوم بأخذ معلومات دقيقة عن تحركات حرس المعسكر. قُتِل المراهق بدم بارد. وتتعدد الأمثلة ويكثر ضحايا خالد، وهو يبيع أهله بأبخس الأثمان، آخر ضحاياه كان جنابو بخيت (يوميات قاطن معسكر ٢١، ٢٢) قتل في طريقه إلى المسجد لقضاء صلاة العشاء على ملئ من الناس لتوصيل رسالة من حمّاد ومن فوقه المركز في الخرطوم ان التبشيع هو مصير كل من تسوّل له نفسه المضي في طريق التمرّد او حتى التفكير فيه. الآن هذا الخالد في قبضة من أوشى بهم، فكيف له أن يتوقع غير السوء وغير كأس المرّ الذي سقى منه ضحاياه حتى إرّتووا، كانت الرحلة طويلة وتتخللها خيران ومعطفات حادة، تلال وسهول، وتصليح عُطل محرك العربة التاتشر.

شريط موت يمرّ ببطأ أمام عينيه العصوبتيّن. أفاق على صوت من معه بالعربة وهو يقول “داير تشرب موية”، رد خالد بصوته الحاد وقد غطي عليه الكثير من الوجل “اي والله”، رد عليه الشخص “تفتكر لمن جنابو بخيت كانو بيضربوه بالدِبِّشق في راسه ما كان داير موية؟ او ما كان يتمنى انو ما يضربوا؟ اشرب المرية الحرمت منها المساكين ديلاك اشرب” رفع ذاك الشخص قارورة الماء ووضعها في فم ذلك الخالد الذي أخذ يتجرّع المال بسرعة حتى إرتوى، بعدها تناولوا القليل من الطعام وواصلوا رحلتهم إلى أرض الميعاد.

في معسكر كلمة كان علي يستعد للخروج من راكوبته فقد مرّت فترة لم يخطو خارجها، الآن وقد تعافى بعض الشيئ آثر الخروج للتنفس بأوكسجين متجدد، لاحظ ان هناك عثرة في المشي وانه ما زال يضع جلّ وزنه تقريباً على قدم واحدة تفادياً لتجدد فتح الجرح الذي تعرّض جرّاء تعذيبه من قِبل جهاز الأمن في بيت الأشباح في نيالا.

خرج من الراكوبة وكان كل ما يمر أمام عشة من عشش جيرانه يجد ترحيباً من الصغار والكبار، النساء والرجال والأطفال، فكل منهم يعلم بطريقة او أخرى ان لعلي يد في تحويل خالد من تلك البقعة من المعسكر، لا يعرفون التفاصيل ولا يتجرأؤون بالخوض فيها حتى ان عرفوها. فبناء جاسوس منهم ليعمل ضدهم ولّد نوع من البرنويا والهوس والشك والريبة بين الناس، فبإسم الحوجة حلّل النظام بعض الذي حُرّم على أهل المنطقة، فالصفات الذميمة تلك توجد بأشكال مختلفة في اي مجتمع، ولكن تكثر في المجتمعات المستهدفة بالانقراض وذلك بفعل الدخيل الذي يود السيطرة بشتّى السبل على مناطقهم.

أصبح علي من الشخصيات المعروفة جداً في المعسكر وهذا بدوره خلق جو من الحسد في نفوس بعض الأفراد الذي كرّسوا جهدهم للإيقاع به مع منظومة الأمن في المعسكر وفي مقدمتهم حمّاد سكم الذي أختفاء لمدة ثلاث أسابيع مما جعل أُمراءه في المركز يرسلون لإستدعاءه إلى الخرطوم ولكن دون جدوى، ففي هذه الأيام تدور معارك كبيرة بين مجموعة تابعة ود الزاكي قائد جنجويد شمال دارفور، وأبناء عمومة حمّاد سكم في جنوب دارفور، وكانت منطقة النزاع قرية تدعى شبيط جنوبي كبّكابية. قُتِل العديد من الطرفين، وعندما اشتدت الحرب، حاول المرّكز احتواء الأزمة ولكن دون جدوى، فقرر النائب الأول للرئيس، على عثمان، إستدعاء حمّاد إلى باهت القصر الجمهوري حيث مكتبه، لم يرضخ حمّاد على الفور فقد أثر فيه مقتل أسرة ابن عمٍ له تأثيراً بالِغ فقد كان من مقربين له جداً ومتزوجيّن من أخوات، عدائل. أما ود الزاكي فكان في الخرطوم حينها، وكان ذلك يومه الثالث في العاصمة، يسكن في بيت احد جنرالات الجيش، يقع البيت في حي المهندسين وتم استإجار البيت من الجنرال من قِبل الدولة لضيوف القصر الجمهوري المحليين. أتى الخرطوم قبل إستدعاءه لزيارة ابنه غير الشرعي إعيسر الذي يرقد طريح الفراش من جرّاء العلّقة التي تذوقها من أحد فتية معسكر أبوشوك (يوميات قاطن معسكر ٢٤) “، كان إعيسر في مستشفى السلاح الطبّي، في الجناح الخاص برجال الدولة، رجال الدولة ذوي الطبقة الثالثة، لان أهل الطبقتين الأولى والثانية مشافيهم في الأردن وأوربا، بعد ان افقروا ودمّروا أعظم صناعة في السودان.

عندما تأخر حمّاد عن ميعاد النائب الأول وتوالت الأخبار عن دخوله المعارك الأخيرة بنفسه. ارسل على عثمان عربة لإحضار ود الزاكي من السلاح الطبّي، وهرول الأخير تاركاً ابنه في فترة نقاهة بين عملية وعملية. ولجت العربة، ماركة مارسيدس بينس والتي يُطلق عليها الشبح، دخلت من بوابة الزُوّار للقصر الجمهوري، وخضعت العربة لقليل من التفتيش فقد كانت تحمل لوحات تابعة للقصر. بعدها استمرّت العربة في حركتها ببطء إلى ان وصلت إلى حديقة القصر حيث توقفت وكان هناك موظف برتوكولات في الانتظار، قام الموظف بفتح باب الشبح ونزل ود الزاكي والتى كانت المرّة الأولى التى يُستدعى فيها إلى القصر، عدّل شاله وعباءته ثم تبِع الموظف إلى مكتب في الطابق الأرضي، مكتب الأمن حيث تم تفتيشه بإحترام وكان رجال الأمن يرددون هذه إجراءات روتينية من اجل الحذر. رد عليهم ود الزاكي الذي أصيب بسكرة القصر منذ وصوله “اي حاجة ولا التلاعب في القصر، دا فيه امير المؤمنين وشيخ العرب البشير”. بعد الإنتهاء من الإجراءات الأمنية تم أخذه إلى مكتب الإستعلامات والبرتكولات وقيل له ان عليه مخاطبة على عثمان ب”شيخ علي” وان عليه الجلوس في كرسي على يسار نائب الرئيس، وان الغرفة مراقبة إذا تمت منه أقلّما حركة غير عادية سيقوم رجال الأمن بالرّد عليه بسرعة لا يمكن له ان يتخيلها، علاوة على وجود رئيس مكتب النائب الأول والذي سيجلس أمامه. أومأ ود الزاكي رأسه من بعد كل فقرة يتلوها عليه الموظف وهو يقول “أبشر يا زول”. بعدها تقدم موظف البرتوكولات يتبعه ود الزاكي وإثنان من رجال امن النائب الأول، الذي كانت يمتلك وُحدة خاصة لحمايته. دخل الموظف إلى مدير مكتب علي عثمان، الذي دخل بدوره الى على النائب لكي يستأذن لود الزاكي، فأُذِن للجنجويدي ود الزاكي بالدخول، وما ان وقعت عيناه على النائب حتى تهلل وجهه بالفرح.

ود الزاكي: السلام عليكم ورحمة الله يا شيخنا وسيدنا، شيخ علي.

قام علي عثمان من على مكتبه وتقدّم نحو ود الزاكي قائلاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ود الزاكي حبابك.

لمس كلاهما كتف الآخر وتصافحا بحرارة، ورجع علي عثمان لمكتبه وجلس ود الزاكي في الكرسي المخصص له وكذلك فعل المدير مكتب، وما ان جلسو جميعهم حتى أتت المشروبات وباقة بلح وبعض الحلويات. وايضاً الشاي والقهوة وقام العمال بالتوزيع والانصراف، الخمس دقائق الأولى كانت تبادل كلام عام، وبعدها اخرج مدير المكتب ورقة تحمل في طياتها ما يجب ان يتداولوه، كان مدير المكتب صاحب نفوذ واسِعة في القصر وخارجه، ومنصبه في بعض الأحيان يفوق منصب بعض الوزراء من حيث الصلاحيات، وكان يعلم كل كبيرة وصغيرة تحاك في القصر والسياسات المعلنة والخفية من قِبل نظام المركز. كانت الورقة تضم ثلاثة محاور، اولها الحرب الدائرة بين مجموعة ود الزاكي ومجموعة تابعة لحمّاد سكم. طرح ود الزاكي أسباب المشكلة من ناحيته وجرّم فيها حمّاد وقال انه اصبح الصعب المناقشة والتفاوض معه، وأن الولاء له أصبح أعمى من قِبل أتباعه، تم إغلاق هذا المحور بإتخاذ قرار موجبه إعفاء سكم من منصبه وتحوليه إلى ولاية غرب دارفور وقسم قواته إلى ثلاثة أقسام، كل جزء في ولاية من ولايات دارفور، والتي في شمال دارفور تكون تابعة لود الزاكي، لم يصدّق ود الزاكي ما سمعه من مدير المكتب الذي تلى القرار على مسامعه في حضور علي عثمان الذي أمّن على القرار وأضاف “نحن عايزين قائد يتمتع بالحكمة وفيه صفات شيوخ وانت أهل لذلك يا ود الزاكي”. كانت هذه الشهادة بمثابة قلادة لود الزاكي سيرتديها في كل مكان. أما عن السبب الرئيسي الذي جعل حكومة المركز تُفضّل ود الزاكي على حمّاد سكم هو بُعد قبلي بحت، فود الزاكي باطش وذو تحالفات كثيرة مع قبائل المنطقة، ولكبر سنه فهو اقل شُبهة من حمّاد الذي ذاع صيته بين منظمات حقوق الإنسان العاملة في الإقليم بعد طردها، وهو من الذين يسعى العالم لجمع المعلومات التي تؤدي لتورطه مباشرةً في عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير القسري.

المحور الثاني في ورقة مدير مكتب النائب الأول كان الدعم المالي، فقد خصص له ولجنوده مبلغ ثلاث ملايين دولار في الفترة القادمة، وسوف يُمد بمثلها بعد إنقضاء المحور الثالث بنجاح، والذي هو اهم المحاور، ففي الآونة الاخيرة حظي الجيش في مناطق شمال غرب دارفور بهزائم متتالية وضعُفت الروح المعنوية، فترك مدير المكتب هذا المحور لعلي عثمان الذي أوجز كلامه في الآتي: المرحلة الجاية محتاجنّكم تشدو حياكم للآخر وتتجه شمال غرب، قائد الجيش في الحامية الغربية الفريق عباس أحمد حيمدّكم بالعتاد ويوريكم تمشو وين. المرتزقة عاملين مشاكل هناك فدايركم تفرموهم وتنتهو من حاجة اسمها تمّوز للأبد، ودي حتكون واحدة من أكبر العمليات، دايركم تنظفوا بلاد الله من رجس أعوان المشركين.

ود الزاكي: أبشر يا شيخ علي، والله أبشر، العبيد ديل خالفوا الله والحاكِم وان شاء الله ما يلقو حتّة يقعدو فيها، وهم عندهم ناس طابور خامس برضو بنخلص منهم.

علي عثمان: انت اعمل اي حاجة بتقودنا لتطهير البلاد من العملاء والمأجورين ان شاء الله.

استطرق ود الزاكي قائلا: يا شيخ علي أنا وناسي بنجدد ولاءنا لله وليكم وللأخ قائد ثورة الإنقاذ الوطني الرئيس عمر البشير. وان شاء الله ننضف دارفور ونسكن في قرى شمال غرب دارفور ناس قُران وما عندهم علاقة بالعبيد، عبيد المال والكفار.

بعدها انتهى الاجتماع بعد ان ألقى النائب الأول نظرة إلى مدير مكتبه الذي فهم أن هذا كل ما في الأمر، وقف مدير المكتب وأشار إلى ود الزاكي بيده، وقف ود الزاكي ثم صافح علي عثمان واتجه بعدها خارج المكتب وإلى طريقه إلى العربة، رافقه مدير المكتب الذي قال له “شيخ علي انبسط منّك” رد ود الزاكي كالطفل الصغير “عليك الله!” أجابه مدير المكتب “نعم، عشان كدة لازم تنفذ المهمة الاخيرة دي عشان نضمن ليك زيارة تانية” رد ود الزاكي بثقة “يازول أبشر نحن قدر الكلام الإتقال هنا”.

رجع بعدها إلى السلاح الطبي لملازمة ولده لمدة ثلاثة أيام قبل العودة إلى شمال دارفور للشروع في تنفيذ المخطط.

في ذلك الوقت في شمال دارفور داخل معسكر أبوشوك كانت مجموعة من الشباب تستعد للهروب من العسكر ليلاً، وكان من ضمنهمم أحمد اسماعيل شقيق علي، الذي آثر ان لا يعيش حياة غير كريمة تحت بطش مجموعة إعيسر، مجموعة حرس الحدود، الجنجويد، تختلف مسمياتها ولكن الناتج منها دائماً ما يكون التنكيل والتعذيب والقتل. ودّع أحمد أهل بيته، بدأ بأمه التي كانت صابرة كعادتها، دعت الله ان يستره ورفاقه في رحلتهم، وقالت إذا كان في العمر بقية نتمنى من الله ان نتقابل في مكان افضل من المعسكر وان يجتمع شمل الأسرة المشتّتة. ثم ذهب لعائشة، توأم روحه بكت هي ونزل دمعة على خد احمد وهو يحضن أخته وهي تقول له لا اله إلا الله ورد بدوره محمد رسول الله. حضن نسيبة وأبو بكر سوياً وقال لهما “لازم تواصلو الدراسة وقراية الكتب وتطورو مقدراتكم بأي طريقة عشان لمن نطلع من هِنا تكونو جاهزين” بكت نسيبة ورد ابوبكر بان شاء الله.

خرج من الراكوبة وكان الوقت صبحاً، وكان شقيقه عثمان جالس فرق حجر يحمل في يده حِفنة من الحصّحاص يرمي بها واحدة تلو الأخرى وهموم الدنيا على عاتقه.

أحمد: يا أخوي انت ما بتتوصى لكن خلي بالك من اخوانك ومن الحاجة، انت كبير البيت في غيابي وربنا يجمعنا في ساعة خير.

لم يرد عليه عثمان فقد كان مظهره يدل على انه على وشك ان يفقد ملهماً آخراً له، فقد فقد أبيه، وشقيقه علي، والآن شقيقه أحمد. تعانقا عناقاً حاراً ومن ثم اتجه احمد إلى منطقة في وسط المعسكر لمقابلة المجموعة، من هناك تسللوا واحداً واحداً من الجزء الشمالي للمعسكر وسلكوا طريقاً وعِراً محفوف بالمخاطر قاصدين أرض ميعادهم، الأراضي المحررة، ليكونوا في صف من يواجه قوات ود الزاكي، وقوات نخبة المركز، قوات النائب الأول. كانت رحلةُ عجائب.

نواصل في ٢٦

20130305-121450.jpg

Leave a comment